السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
إنه رسول بحق فماالأسباب المانعة من قبول الحق؟
قال تعالى:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
نعم إنهم يعلمون علم اليقين أنه النبي الخاتم وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها، ظلما من أنفسهم، سَجِيَّة و استكبارًا عن اتباع الحق.
قال ابن القيم في أسباب إنكار الحق:
والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا، فمنها:
الجهل به:
وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس،
فإن من جهل شيئا عاداه، وعادى أهله،
* فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده، كان المانع من القبول أقوى،
* فإن انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظمه، قوي المانع،
* فإن انضاف إلى ذلك، توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوى المانع من القبول جدا،
* فإن انضاف إلى ذلك، خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه.
كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهمَّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام، بعد ما تبين له الهدى، ...
ومن أعظم هذه الأسباب (الحسد):
فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له، ويكون من أتباعه،
وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟
فإنه لما رآه قد فضل عليه، ورفع فوقه، غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد إن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار، والعلماء، والزهاد، والقضاة، والأمراء.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة لم يأت بشريعة يخالفها ولم يقاتلهم، وإنما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم، تخفيفا ورحمة وإحسانا، وجاء مكملا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة، ناسخة لجميع الشرائع، مبكتا له بقبائحم، ومناديا على فضائحهم، ومخرجا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهو معه دائما في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟
وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدي، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم.
وقد قال المسور بن مخرمة - وهو ابن أخت أبي جهل - لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال: يا ابن أختي، والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط.
قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟
قال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي فمتى ندرك مثل هذه!
وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟
فقال أبو جهل: ويحك!والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟
وأما اليهود فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة: هل تدري عما كان إسلام أسد، وثعلبة، ابني شعبة، وأسد بن عبيد، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك؟
فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود، يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا يصلي خيرا منه،
فقدم علينا قبل مبعث رسول الله بسنتين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر، نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا: فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر أو مدين من شعير، فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب.
قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟
قالوا: أنت أعلم، قال: فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج، يا معشر اليهود! فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات.
فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر اليهود! والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان،
فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا وأسلموا وخلوا أموالهم وأهليهم.
قال ابن إسحاق:
وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح ردت عليهم،
وقال ابن إسحاق:
حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، قال: كان بين أبياتنا يهودي،
فخرج على نادي قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة،
فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان،
فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث النبي ،
فقالوا: ويحك يا فلان! وهذا كائن أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون بأعمالهم؟
قال: نعم، والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطبقون علي وأنى أنجو من النار غدا،
فقيل: يا فلان ما علامة ذلك؟ قال: نبي يُبعث من ناحية هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: فمتى نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم،
فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله وإنه لحي بين أظهرنا، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: يا فلان، ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا به؟ قال: ليس به.
قال ابن إسحاق:
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا إن نبيا مبعوثا الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم.
قالوا: ويحك يا فلان! فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل:
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي، قال: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التفوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان.
فلما بعث النبي كفروا به، فأنزل الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) يعني: بك يا محمد (فلعنة الله على الكافرين) و(يستفتحون) أي: يستنصرون.
وذكر الحاكم وغيره:
أن بني النضير لما أُجلوا من المدينة أقبل عمرو بن سعد فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها، ففكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم، فاجتمعوا
فقال الابوكير بن باطا: يا أبا سعيد، أين كنت منذ اليوم، فلم نرك، وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية،
قال: رأيت اليوم عبرا اعتبرنا بها، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل، والعقل البارع، بد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة، ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة.
وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف في عزة بنيانه في بيته آمنا،
وأوقع بابن سنينة سيدهم،
وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جل اليهود،
وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة. فحصرهم النبي عليه السلام، فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم، على أن أجلاهم من يثرب،
يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان وأبو عمرو بن حواس، وهما أعلم اليهود، جاء من بيت المقدس يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا.
فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، فأعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الابوكير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا، فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟
قال: أنت، قال: ولم فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط؟
قال الابوكير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في ذلك إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا.
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فإنه لما تبين له الهدى، عزم على اتباع موسى عليه السلام، فقال له وزيره هامان: بينا أنت إله تعبد، تصبح تعبد ربا غيرك؟ قال: صدقت.
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر،
قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، فلما قدم رسول الله المدينة، غدوا عليه، ثم جاءا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
فهذه أمة اليهود معروفة بعداوة الأنبياء قديما وأسلافهم وخيارهم، قد أخبرنا الله سبحانه عن أذاهم لموسى، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها).
وأما خلفهم: فهم قتلة الأنبياء قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقا كثيرا من الأنبياء، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئا، واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه، فصانه الله من ذلك وأكرمه أن يهينه على أيديهم وألقى شبهه على غيره، فقتلوه وصلبوه وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة، والله يعصمه منهم.
ومن هذا شأنهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذكرنا بعضها أو سببين أو أكثر.
وانظر هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى لابن القيم رحمه الله
هذا ما تيسر والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
بسم الله الرحمن الرحيم
إنه رسول بحق فماالأسباب المانعة من قبول الحق؟
قال تعالى:
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
نعم إنهم يعلمون علم اليقين أنه النبي الخاتم وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها، ظلما من أنفسهم، سَجِيَّة و استكبارًا عن اتباع الحق.
قال ابن القيم في أسباب إنكار الحق:
والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا، فمنها:
الجهل به:
وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس،
فإن من جهل شيئا عاداه، وعادى أهله،
* فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده، كان المانع من القبول أقوى،
* فإن انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظمه، قوي المانع،
* فإن انضاف إلى ذلك، توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوى المانع من القبول جدا،
* فإن انضاف إلى ذلك، خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه.
كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهمَّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام، بعد ما تبين له الهدى، ...
ومن أعظم هذه الأسباب (الحسد):
فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له، ويكون من أتباعه،
وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟
فإنه لما رآه قد فضل عليه، ورفع فوقه، غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد إن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار، والعلماء، والزهاد، والقضاة، والأمراء.
هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة لم يأت بشريعة يخالفها ولم يقاتلهم، وإنما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم، تخفيفا ورحمة وإحسانا، وجاء مكملا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة، ناسخة لجميع الشرائع، مبكتا له بقبائحم، ومناديا على فضائحهم، ومخرجا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهو معه دائما في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟
وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدي، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم.
وقد قال المسور بن مخرمة - وهو ابن أخت أبي جهل - لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقال: يا ابن أختي، والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط.
قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟
قال: يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي فمتى ندرك مثل هذه!
وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟
فقال أبو جهل: ويحك!والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟
وأما اليهود فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة: هل تدري عما كان إسلام أسد، وثعلبة، ابني شعبة، وأسد بن عبيد، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك؟
فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود، يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا يصلي خيرا منه،
فقدم علينا قبل مبعث رسول الله بسنتين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر، نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا: فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر أو مدين من شعير، فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب.
قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟
قالوا: أنت أعلم، قال: فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج، يا معشر اليهود! فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم مات.
فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر اليهود! والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان،
فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا وأسلموا وخلوا أموالهم وأهليهم.
قال ابن إسحاق:
وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين فلما فتح ردت عليهم،
وقال ابن إسحاق:
حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، قال: كان بين أبياتنا يهودي،
فخرج على نادي قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة،
فذكر البعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان،
فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث النبي ،
فقالوا: ويحك يا فلان! وهذا كائن أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون بأعمالهم؟
قال: نعم، والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه ثم تقذفوني فيه ثم تطبقون علي وأنى أنجو من النار غدا،
فقيل: يا فلان ما علامة ذلك؟ قال: نبي يُبعث من ناحية هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: فمتى نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي وأنا أحدث القوم،
فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله وإنه لحي بين أظهرنا، فآمنا به وصدقناه وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: يا فلان، ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا به؟ قال: ليس به.
قال ابن إسحاق:
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا إن نبيا مبعوثا الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم.
قالوا: ويحك يا فلان! فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل:
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي، قال: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التفوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان.
فلما بعث النبي كفروا به، فأنزل الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) يعني: بك يا محمد (فلعنة الله على الكافرين) و(يستفتحون) أي: يستنصرون.
وذكر الحاكم وغيره:
أن بني النضير لما أُجلوا من المدينة أقبل عمرو بن سعد فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها، ففكر ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم، فاجتمعوا
فقال الابوكير بن باطا: يا أبا سعيد، أين كنت منذ اليوم، فلم نرك، وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية،
قال: رأيت اليوم عبرا اعتبرنا بها، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل، والعقل البارع، بد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة، ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة.
وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف في عزة بنيانه في بيته آمنا،
وأوقع بابن سنينة سيدهم،
وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جل اليهود،
وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة. فحصرهم النبي عليه السلام، فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم، على أن أجلاهم من يثرب،
يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان وأبو عمرو بن حواس، وهما أعلم اليهود، جاء من بيت المقدس يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا.
فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، فأعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الابوكير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا، فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟
قال: أنت، قال: ولم فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط؟
قال الابوكير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في ذلك إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا.
وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فإنه لما تبين له الهدى، عزم على اتباع موسى عليه السلام، فقال له وزيره هامان: بينا أنت إله تعبد، تصبح تعبد ربا غيرك؟ قال: صدقت.
وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر،
قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، فلما قدم رسول الله المدينة، غدوا عليه، ثم جاءا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
فهذه أمة اليهود معروفة بعداوة الأنبياء قديما وأسلافهم وخيارهم، قد أخبرنا الله سبحانه عن أذاهم لموسى، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها).
وأما خلفهم: فهم قتلة الأنبياء قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقا كثيرا من الأنبياء، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئا، واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه، فصانه الله من ذلك وأكرمه أن يهينه على أيديهم وألقى شبهه على غيره، فقتلوه وصلبوه وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة، والله يعصمه منهم.
ومن هذا شأنهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذكرنا بعضها أو سببين أو أكثر.
وانظر هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى لابن القيم رحمه الله
هذا ما تيسر والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل